صبر محمد صلى الله عليه وسلم‏

من أراد الحياة بلا صبر ، فقد أرادها على غير طبيعتها ، ورآها على غير صورتها ، فهو مستظل بالخيال صاحب أوابد وأمثال ، فر من اليقظة إلى المنام ، ومن الحقائق إلى الأحلام00

من عنده صبر فليدع الناس جانباً فقد حان نصرهُ ، لأن النصر مع الصبر ، وقربُ فرجه لأن الفرج مع الكرب ، ودنا يسره لأن مع العسر يسرا00

الصابر يعيش بصبره في نعيم ، والجازع يعيش بجزعه في جحيم ، سجن الصابر جنة ، وبليته عطيّة ، ومحنته منحة ، وفقره غنى ، ومرضه عافية00

صبر آدم على مفارقة الوطن الأول من الجنة ، وصبر نوح على فقد الولد ، وصبر إبراهيم على مقام ذبح الإبن ، وصبر يعقوب على فراق يوسف ، وصبر موسى على أذى الطاغية ، وصبر داود على مرارة الندم ، وصبر سليمان على فتنة الدنيا ، وصبر عيسى على ألم الفقر ، وأما رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فصبر عليها كلها ، وعاشها كلها ، وذاقها كلها ، ففاز بالمقامات كلها ، صبر على فراق الوطن ، ومراتع الفتوة ، وملاعب الصبا ، وربوع الشباب ، فترك الأهل والعشيرة ، والدار والمال ، وصبر على فقد الولد ، فسالت أرواح أبنائه بين يديه ، وقعقعت أنفسهم أمام ناظريه00وصبر على ألم الأذى فأوذي في المنهج والوطن ، والسمعة والخُلق ، والرسالة والزوجة0

وصبر على شماتة العدو ، وتنكر الصديق ، وعقوق القريب ، ونيل الحاسد ، وتشفي الحاقد ، وتألب الخصوم ، وتكالب الأحزاب ، وتكاثر المناوئين ، وصولة الباطل ، وقلة الناصر ، وصبر على شظف العيش ، وجفاف الفقر ، ومضض الحاجة ، وقلة ذات اليد ، وجدب النفقة ، وعوز المعيشة ، وحرارة الجوع ، ومرارة الفاقة0

وصبر على غلبة الخصم ، وقتل القريب ، وأسر الحبيب ، وتشريد الأصحاب ، والتنكيل بالأتباع ، والجراح في البدن ، وفزع التهديد والوعيد ، وقعقعة الغارات ، وأهوال الغزوات0

وصبر على بطر الأغنياء ، وزهو الكبراء ، وشراسة الأدعياء ، وجلافة الأعراب ، وصلف الجهلة ، وسوء أدب الجفاة0

وصبر على خيانات اليهود ، ومراوغة المنافقين ، ومجابة المشركين ، وبطء استجابة المدعوين0

ثم صبر على فرح الفتح ، وسرور الانتصار ، وجلبة إقبال الدنيا ، وإذعان الملوك ، واستسلام الجبابرة ، ودخول الناس في دين الله أفواجاً0

صبر وهو يرى الكنوز تفرغ في أوعية الناس فلم يأخذ منها درهماً واحداً0

وصبر وهو يشاهد القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يتقاسمها الناس ولم يحمل منها قطميراً0

صبر وهو يحوز قطعان الإبل والبقر والغنم كالآكام ، ثم يوزعها على مسلمة الفتح ، ولم يظفر بجمل أو بقرة أو شاة وصبر على سكنى بيت من الطين ، وعلى أكل الشعير ، وعلى افتراش الحصير ، وعلى ركوب الحمار ، وعلى لباس الصوف0

الأب مات ولم يره ، والأم توفيت ولم تتم الرضاعة ، والجد فارق الدنيا ولم يحطه برعاية ، والعم ذهب وقت النضال ، وخديجة وُدعت يوم الحزن ، والابن سالت روحه يوم تمام الحب ، وعائشة تُرمى ساعة كمال الأنس ، وحمزة يقتل زمن المصاولة0

أنِسَ بالمدينة فنغّص عليه المنافقون أُنسه ، استبشر بالنصر في بدر فأسرعته غصة الألم في أُحد ، أزهر وجهه كالقمر ليلة البدر فشجّ بالسهام ، وتلألأت أسنانه كالبرد فكسرت ثنيته في المعركة ليبقى أجره في الآخرة موفوراً ، وسعيه عند ربه مشكوراً ، وليلقى وليّه ومعبوده مسروراً ، ليجتمع له الثواب كله ، أوله وآخِرُه ، قديمه وحديثه ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر0

واستحق ذلك لأنه صبر فله الزلفى ، وتمام الرفعة ، والوسيلة ، والفضيلة ، والمنازل الجليلة ، لأنه صبر0
وله المقام المحمود ، والحوض المورود ، واللواء المعقود ، لأنه صبر0
وله الشفاعة ، والخطاب ، والقرب ، والحظوة ، لأنه صبر0

كذبوه ، شتموه ، سبوه ، آذوه ، فنزل { اصبر على ما يقولون }
حاربوه ، نازوله ، شردوه ، طاردوه ، قاتلوه ، فنزل { واصبر وما صبرك إلا بالله }
هجروه ، وأعرضوا عنه ، وصدوا عن سبيله ، ووقفوا في طريقه ، فنزل { فاصبر صبراً جميلاً }
طال عليه المدى ، ترقب النصر ، كثر العدو ، تزاحمت النكبات ، فنزل { فاصبر إن وعد الله حق }
رد عليه قومه أقذع رد ، وأفظع جواب ، وأبشع خطاب ، وأقبح مواجهة ، فنزل { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل }

فصبر صلى الله عليه وسلم صبراً جميلاً في كل مقامات العبودية ، صبر في رضاه وغضبه ، وسلمه وحربه ، وغناه وفقره ، فصار إمام الصابرين ، وقدوة الشاكرين0

**************************

فهل رأى البشر صبر مثل صبره صلى الله عليه وسلم ،،، اللهم ثبتنا على سنته ،، ووفقنا لسيرته ،، وانصر بنا دعوته00